نساء سوريات يحوّلن الوعي البيئي إلى فعل يومي

بأدوات بسيطة وجهود بدأت بشكل فردي، تساهم نساء سوريات بمواجهة التغير المناخي. من التشجير إلى حفظ البذور والزراعة العضوية، ساهمت بيان وفضة ورنا، كل من مكانها، بتحويل الوعي البيئي إلى فعلٍ يومي، ليثبتن للجميع أن حماية المناخ لا تبدأ من المؤتمرات، بل من أرضٍ تنبت الخير، ومن أشخاص يتكيفون مع التغيرات المناخية.

تشكل جهود السيدات الثلاث نواة لوعي بيئي جديد في سوريا. في حلب، تغرس بيان فقيه شجرة جديدة كل فترة. في الريف الجنوبي، تقطّر فضة اليوسف ماء الورد من زهورٍ نمت دون سموم. وفي سلمية، ترمي رنا كرات من بذور أينما حلّت.

بيان فقيه.. التغيير يبدأ من الوعي ثم التوعية

في مدينة حلب، تعمل المهندسة الزراعية بيان فقيه، 28 عاماً، على نشر ثقافة بيئية جديدة بين السكان. بيان، التي درست هندسة الحدائق وتصف نفسها بأنها “محبة للبيئة بالفطرة”، وجدت في البرنامج السوري للتغير المناخي مساحة لتطبيق ما تؤمن به، إذ تشارك في حملات التشجير وأنشطة التوعية البيئية في المدينة.

تقول بيان: “من وجهة نظري، الوعي هو الخطوة الأولى لحماية البيئة. إذا لم يدرك الناس خطورة ما يجري حولهم، فلن نستطيع تحقيق أي تغيير حقيقي”. لذلك، تركّز جهودها في البرنامج على رفع الوعي البيئي بين السكان المحليين، خصوصاً في المدارس والجامعات والحدائق العامة.

تشمل الأنشطة التي تشارك فيها حملات توعية للحفاظ على المساحات الخضراء، وعدم رمي النفايات في الطرقات والأحياء السكنية، وتشجيع الناس على وضعها في أماكن مخصصة لجمع القمامة. توضح: “الحفاظ على البيئة يعني بيئة صحية خالية من الأوبئة والأمراض، وصورة أجمل لمدينتنا”. كما تعمل بيان مع زملائها في البرنامج على نشر ثقافة فرز النفايات في الحدائق والمشافي والجامعات، كخطوة نحو إدارة مستدامة للنفايات.

إلى جانب التوعية، تشارك بيان بفعالية في حملات التشجير التي ينفذها البرنامج في الأحياء والمناطق السكنية، مؤمنة بأن كل غرسة تحمل رسالة أمل. تقول بابتسامة: “كل شجرة نزرعها هي وعد بمستقبل أفضل.. المساحات الخضراء ليست مجرد جمال بصري، بل سلامة صحية وحضارية لمجتمعنا”.

تعتبر بيان أن دور النساء اليوم أساسي في حماية البيئة، خصوصاً في ظل التغيرات المناخية التي تضرب المنطقة. “وجودي في هذا البرنامج منحني دافعاً قوياً لأثبت أن المرأة قادرة على قيادة العمل البيئي في سوريا”، تقول بثقة، مضيفة أن الهدف الأبعد هو أن تصبح حماية البيئة جزءاً من وعي المجتمع وسلوكه اليومي.

فضة اليوسف… الزراعة النظيفة من أجل تربة متوازنة

في قرية حوير العيس بريف حلب الجنوبي، بدأت فضة اليوسف مشروعها الزراعي بعد عودتها من لبنان، حاملةً معها سنوات من الخبرة التي اكتسبتها خلال مشاركتها في مبادرة بيئية. أعادت فضة تلك التجربة إلى أرضها، فزرعت الأعشاب الطبية والزهور العطرية مثل اللافاندر والميرمية والورد السلطاني، مستخدمة طرق التقطير لاستخراج الزيوت وماء الزهر. تقول بابتسامة: “كل زهرة أزرعها هنا تحمل قصة تعلمتها بعيدًا عن أرضي، وأريد أن تصل هذه المعرفة لكل من يزرع حولي”.

فضة لا تؤمن بالحلول السريعة في الزراعة، لذلك تعتمد كلياً على الأسمدة العضوية، وتبتعد تماماً عن استخدام المواد الكيميائية. تقول بثقة: “يستحيل أن أطعم أطفالي فواكه أو خضار تحمل سموم المبيدات. الزراعة النظيفة هي الطريق الوحيد لحياة صحية”. فالمواد الكيميائية، رغم قدرتها على تسريع النمو، تترك آثاراً سامة في التربة والمياه، بينما تعيد الأسمدة العضوية المكونة من بقايا النباتات والمواد الطبيعية للتربة توازنها الحيوي وتغذيها دون ضرر.

لم يكن مشروع فضة مجرد مزرعة صغيرة، بل مساحة تعليمية تشارك فيها جاراتها والمزارعات في القرية ما تعلمته، لتشجيعهن على الزراعة الصديقة للبيئة. تشرح قائلة: “حين تتعلم النساء كيفية إنتاج غذاء نظيف، فهن لا يحمين عائلاتهن فقط، بل يساهمن بحماية من حولهنّ أيضاً”.

تحتفظ فضة اليوم بكميات جيدة من البذور والشتلات التي أحضرتها معها من لبنان، وتعمل على تكثيرها وزراعتها محلياً، لتضمن استمرار الأصناف الأصيلة وتنوعها. مشروعها الصغير تحوّل إلى نموذج مصغر للتنمية المستدامة في الريف، حيث تتداخل الزراعة والتعليم والبيئة في دورة حياة واحدة تعيد التوازن إلى الأرض والناس معًا.

رنا.. حارسة البذور

رنا حيدر التي تنحدر من مدينة سلمية شرقي حماة، وهي موظفة في البحوث الزراعية. تهتم رنا بالبذور الأصيلة غير الهجينة، تلك التي يمكن إكثارها موسماً بعد آخر، بخلاف البذور التجارية التي تموت بعد حصاد واحد.

 تعمل رنا على إنشاء “بنك بذور” محلي لتخزين هذه الأنواع واستخدامها في أوقات الأزمات أو الكوارث. وإلى جانب ذلك، تطبق فكرة بسيطة وفعالة تُعرف باسم “كرات البذور”، وهي كرات صغيرة من التراب والسماد العضوي تُخلط ببذور محلية، ثم تُرمى في الأراضي أو على أطراف الطرق. ومع أول هطول للمطر، تنبت هذه الكرات لتعيد للحياة بعضاً من خضرتها. تقول رنا بابتسامة: “أحياناً أرمي كرات البذور وأنا في طريقي إلى العمل.. أشعر وكأنني أزرع أملاً صغيرًا في كل خطوة”.

تزرع رنا في أرضها أشجار التين والفستق الحلبي واللوزيات، وتربي نباتات عطرية كالخزامى وإكليل الجبل والميرمية داخل بيت بلاستيكي صغير. ولأن بعض الأشجار تأثرت مؤخراً بآفات مثل حفار ساق الزيتون، اتجهت إلى أصناف أكثر مقاومة مثل الصوراني والقبيسي والزيتي، محاولة أن تجعل من كل تجربة زراعية درسًا في التكيف البيئي.

وتكمل رنا حلقة الزراعة المستدامة بإنشاء أحواض ديدان (الفيرمي) لإنتاج سماد عضوي طبيعي. تستعمل ماء هذه الأحواض، المعروف باسم “شاي الفيرمي”، لتغذية أشجارها. تقول: “الديدان تعمل ببطء لكنها تغير كل شيء، فهي تحلل المواد العضوية وتمنح التربة حياة جديدة”.

بهذه الخطوات الصغيرة، تزرع رنا أكثر من نبات تزرع فكرة أن الحلول الكبرى تبدأ من عمل بسيط ومتفانٍ في أرض صغيرة.

في مشتلها الذي أسسته قبل سبع سنوات، ترفض رنا استخدام أي مبيدات كيميائية، وتستعيض عنها بخليط طبيعي من الثوم والفليفلة الحارة والخل وصابون الغار الذي يحلّ بالماء ويضاف إليه الخليط ليتجانس. “لا أريد أن أقتل الحشرات النافعة وأقتل معها النحل”، تقول، مؤكدة أن الزراعة النظيفة ليست فقط عن النبات، بل عن التوازن بين كل كائن يعيش في الحقل.

نحو وعي بيئي متجدد

تتقاطع جهود بيان وفضة ورنا مع ما تحذر منه تقارير الوكالة الأوروبية للبيئة (EEA) بشأن أثر تلوث الأسمدة على الإنسان والتربة. فوفقًا للوكالة، يمكن أن تحتوي الأسمدة، سواء المعدنية أو حتى العضوية غير المعالجة، على ملوثات خطرة مثل المعادن الثقيلة ومسببات الأمراض والميكروبلاستيك. هذه الملوثات لا تبقى في الأرض فحسب، بل تنتقل إلى الغذاء والماء والهواء، مسببة أضرارًا عصبية وكلوية وربما سرطانية.

في مواجهة هذا الواقع، تختار بطلات البيئة الثلاث مساراً من أماكن مختلفة: بيان تزرع الوعي البيئي وتدعو إلى فرز النفايات وتقليل الملوثات من المصدر، فضة تعتمد على الزراعة النظيفة وتستغني تمامًا عن الأسمدة الكيميائية، ورنا تعيد الحياة للتربة عبر السماد العضوي وأحواض الديدان الطبيعية.

جهودهن لا تقتصر على إنتاج غذاء صحي، بل تسعى إلى حماية التربة من التحلل البطيء تحت وطأة الملوثات، لتصبح الزراعة بالنسبة لهن دفاعاً بيئياً متقدماً ضد التغير المناخي وتدهور النظم الطبيعية.

شارك